الأحد، 10 أغسطس 2014

( الأثر ) لجمال مليكة - مقالي المنشور في جريدة الفنون - الكويت يوليو 2014

في معرضه الأخير بجاليري الكحيلة يعرض الفنان التشكيلي المصري جمال مليكة أحدث  تجاربه تحت عنوان "الأثر" أو "EROSION " تلك التجربة التي تعبر في رأيه عن أثره و البصمة التي يتركها للعالم ، و هذه هي المحاولة الثانية لمليكة في تقفي أثره في الوجود الأولى كانت في معرضه المشترك مع أعمال النحات العالمي أوجست رودان  - بجاليري هاي هيل لندن 2010 - و التي يعتبرها أحد أهم المحطات في مسيرته الإبداعية كما يقول و عليه فقد عرض في معرضه الاخير لوحتين عرضتا فيه كأثر لهذا الحدث .
يرينا مليكة في لوحاته ذلك العالم الوسط بين الكون الذي ندركه و الكون الذي نحسه عالم الصور و التمثيلات ،عالم المادة و اللامادية هذا العالم الذي هو واقعي و متماسك و أزلي تتجسد فيه الروح و يتروحن الجسد و يتولد التجلي في هذا العالم الباقي و الأزلي الذي يحتفظ بأثر كل منا ، ذلك العالم الذي يضم الأحداث الرمزية في واقعها الحقيقي و ليس المتخيل عالم الحساسية المدركة بالعقل فكل أثر في هذا الكون  مهما كان متناهياً في الصغر كأثر الفراشة التي  إن رفت بجناحها في أقصى العالم تؤثر على دورة المناخ في الطرف الاخر ، الأثر  هو كل ما يتبقى منا في رحلتنا الأرضية و يراه مليكة كقطرات الماء التي تتوالى على جبل فتنحته و تشكله كنحر في الصخر و مجموع تلك الآثار هو ما يعيد تشكيل و ترتيب الكون و ما يحدث الفرق فيه و قد عبر الفنان عن رؤيته هذه في لوحاته المتراوحة الألوان بألوان  طيف الروح " الأحمر – الأزرق- الأصفر – الأسود –الأبيض و البني لون الرمال" و الملامس الغائرة و البارزة و الأجسام المجردة التي يبدو و كأنها أطياف أو أشباح و هياكل أجسام متحللة و مجردة و استبعد اللون الأخضر لأنه في رؤيته الخاصة جداً تعبير عن الخير و الخصوبة و العطاء و كما قال ليس أنا من يحكم على الأخضر في أثري بل الآخر ، و استعمل في هذه الحيوات المجردة التي تركت بصمتها و أثرها لون الذهب الذي لا يتحلل و لا يفنى و يبقى عبر الأزمنة مستلهماً اياه من ميراثه المصري القديم في إظهار قيمة خاصة للذهب .
و مليكة دائماً ما لعب في أعماله الفنيه على ثلاثة محاور هي التقنية العالية في الخط و اللون ، التكوين الصرحي المجرد في نفس الوقت ، الاستلهام من تراثه المصري الأصيل بروحانيته و ثراءه و خصوبة و حرارة ألوانه و ربما يبدو ذلك واضحاً من العناوين التي اختارها للوحاته "أنافورا –  رجال الصحراء  - الوجد – الأثر – أحفورة" ، أما تكوينات جمال مليكة و موتيفاته الأيقونية فهي نتاج تجربته الشخصية و تعبيره عن رؤيته للواقع و ما ورائه ففي نطاق بحثه عن أسلوبه الخاص و هويته الشخصيه عثر  على طريقته المميزه سواء في الحركة داخل اللوحة أو في مزامنة الأوضاع و العناصر التي كونت وجود مليكة الخاص على اللوحة ، فهو لا يعد نفسه منتمياً لأي مدرسة أو حركة تشكيلية بعينها و ربما كان هذا التفرد و التميز هو ما دفع بالناقد الراحل الكبير كمال الملاخ "مكتشف مراكب الشمس" لتقديم مليكة في معرضه الأول في القاهرة و يكتب عنه قائلاً " في الخيال الثائر بكل إبداع .أعمالك الفنية تذكرني و تنقلني للتو إلى أجواء أساطير الحضارة و عوالم الإيمان ".
فقد سعى جمال مليكة جاهدا عبر رحلته مع الفن التي بدأت في مصر منذ طفولته في مركز القاهرة للموهوبين حيث تتلمذ على يد أساتذة كبار مثل " راغب عياد – حامد ندا – غالب خاطر "  إلى ترك بصمته و أثره المستمد و النابع من تراثه الأصيل المتأثر و المتفاعل مع دراسته و تأثره بتجربته المكتسبة من العيش لأكثر من أربعين عاماً في إيطاليا  حيث وظف دراسته و المهارات التي اكتسبها خلال دراسته بأكاديمية بيريرا للفنون بميلانو في ابتكار اسلوبه المميز في لوحاته الذي يجمع ما بين التجريدية و التشخصية و تراثه الماضي فيه يمثل  جزءاً من الحاضر و البيئة المحيطة به ، هذه البيئة ليست ماضياً بل حاضراً ملموساً في ذهنه و تجاربه و مخيلته فماضيه هو جزأ من معرفته بالحاضر ، ليوجد بذلك رؤية مميزة صهر فيها تجاربه و شخصيته و معتقداته و خيالاته و أحلامه واكتشف مساره المميز الذي ميز مسيرته الفنية عبر تطورها منذ البدأ و حتى الآن .
تلك المسيرة التي  كان فيها الإنسان و علاقته بالزمان و ما يتركه من أثر  و مازال هو قضية مليكة الشاغلة فأعماله ما هي إلا مشاهد من الإيقاع المتدفق و المتناغم بين الإنسان و الطبيعة المحيطة به مولداً بذلك رؤية دائرية للزمن تتجدد فيها الحياة و رصده لآثار الروح في الجسد الفاني  و هنا يقول مليكة أنه يرى آثار الحيوات التي يمثلها كآثار البيوت و المنازل من شباك طائرة فوق القاهرة تلك البيوت الفارقة في الرمادية بعشوائيتها و تراكبها و عدم انتظامها في فسيفساء تشبه ارواح قاطنيها في بنائهم و تنافرهم و تضادهم و ضبابيتهم مكونين صورة كليه هذه الصورة تكون وجود المدينة الذي هو في رؤيته صورة مصغرة من وجود العالم و كينونته كل بيت منها جزء و كل جزء أثر كما أن كل حياة جزء من الأثر الأعمق و الأقوى و الأكبر في الكون ، للبيوت حياة و تاريخ و ذكرى كما للأشخاص و كلاهما أثر لا يزول .
  أما إن سألت مليكة عن فلسفته التشكيلية فسوف يضرب لك مثل " باديب يكتب على ورقة بيضاء و هنا هو لا يضيف من وجهة نظره أسود على أبيض بل يحذف من الأبيض ليخلق عالمه الخاص "  كذلك ما يقوم به مليكة هو نوع من خلق نظام معين من فوضى الشخوص و الأشكال التي حوله فإيقاع اللوحة يعكس نوعاً من الوحدة وسط التنوع وتعكس نغمية الاستمرارية وسط السكون مما يعكس جزأ من عواطفه و حالته النفسية ، الخط  فيها عنده احد من اهم أولوياته  أما اللون فهو دائماً البطل الرئيسي  في لوحات مليكة و لعل دقته في اختيار اللون هي التي تترك ذلك الايحاء عند المتلقي في أن عناصر اللوحة ليست وحدها  و لكنها في تفاعل مع الكون و الطبيعة  تبدو و كأنها سابحة في بحر كوني خلال رحلة خارج إطار الزمن و بلا مكان محلقة في وجود مطلق و كأنه ينحت شخوصه على جدار اللوحة و يخرجهم من نسيجها بألوان و اكاسيد براقة متوهجة تعود لمخزون بصري ثري من ذاكرة الطفولة لتصبح  اللوحة  في هذه الحالة بمثابة موازنة بين النظرة التجريدية والتمثيل الواقعي و تأتي كاستعراض مطلق للون وماهيته ، ففي أغلب رسوم مليكة أصبحت الأشكال نفسها مجرد نقطة للتركيز و نقطة لتجميع التجربة الابداعية الناتجة عن تجربته الروحية و الحياتية  لتأتي شخوص مليكة التي يشكلها بالخامات و يصورها بالالوان و يحفرها و يحملها بالاشارات هي غاية في التنوع و الكمال و التميز و الابتكار أيضاً و يظهر فيها تلك التقنية التعبيرية العالية التي هي نتاج لسنوات من البحث و التنقيب ، فلوحاته هي خلاصة تجربة وجود على قيد الحياة يشعر معها المتلقي في اللوحات  بنوع من القوة الخفية التي تربط الحياة اللامرئية الموجوده بداخل الفنان " روحه " بفعله الفيزيائي المتمثل في عملية الرسم  فتصبح هذه العملية قناه للتعبير عن القوة الحيوية الكامنة في أعماق الجسد الانساني و تلخيص للعلاقة بين الانسان و الطبيعة حيث تظهر الخبرة الجمالية نفسها في حلول بسيطة دون صعوبة في ايجاد وسيلة للتعبير عنها فنجد أن مليكة عندما يرسم مشهده دائما ما يوجد حلقة وصل بينه و بين هذا المشهد باحساس حداثي فرؤيته الفنية دوماً ما تغوص أعمق من سطح المشهد العادي معبرة عن معان ربما تكون اختفت او توارت عن السطح  و لكن لا بد من اعادتها إلى الذاكرة لانه لا محل لها من النسيان ، و هو يطرح مفاهيم بسيطة في لوحاته تتعدى في رسالتها الاحاسيس المادية العادية إلى أحاسيس مجردة فيرى المتلقي بابين خفيين في اللوحة أحدهما مؤدي إلى السماء يوصل إلى مفاهيم روحية مجردة نقية و الآخر يفتح على الأرض تعبر فيه شخوصه بوابات  ترقد فيها أرواح أجدادهم لتبدوا اعمال مليكة و كأنها إحياء لحضارة و ميثولوجيا دفنها الزمن و اكتشفها هو ليقوم بنفض التراب عنها في محاولته لاكتشاف جوهر الوجود و سماته  في أجداثها التي تحمل في ثنيات عظامها الباليه بعض من أجزاء اللغز الكوني .
 فكل لوحة من لوحات مليكة هي بمثابة منظومة عضوية عبر فيها عن رؤيته اللامتناهية للكون  و اللوحة من وجهة نظره هي اكتشاف لمنطقة جديدة في المطلق بحثاً عن حقيقة كونية او حتى محاولة لكشف ظواهر هذه الحقيقة و هو ما يتضح جلياً في  أعماله التصويره البارزه و التي رغم  انها للوهلة الأولى تبدوا للمتلقي كأنها تحمل طابعاً غربياً  إلا أن النظرة الفاحصة المتأنية لها يظهر فيها مدى اغراقه في ثقافته ومحليته ، و إن كان هو نفسه لا ينكر أن أعماله تحمل تأثيراً ينعكس في طبقاته الديناميكية و لكنه مجرد إطار للجوهر الروحي و النابع من أصوله فالمشهد هو مشهد ثقافته الأصلية و تقاليد أهله و جذوره  بالاضافة إلى تاريخه الشخصي و تفاعل تجاربه معها ، و الفكرة هي فكرة الكون الوسيط  "الروحانية الأيقونية الأثر و الشغف و الولع بالخلود  و الربط بين السماء و الأرض " هي ما يميز مشهد اللوحة هنا بالدرجة الأولى رغم الأثر الغربي  ،هذه اللوحات تبدوا و كأنها طبقات ديناميكية متتالية متفاعلة مع بعضها البعض ، و مع ما حولها من فراغ كما  يقول مليكة " أنا في أعمالي البارزة أحاول ان أوجد علاقة كونية بين اللوحة و ماحولها من فراغ من خلال ما تشغله طبقاتها و بروزاتها من فضاء " موجداً بذلك حالة من التناغم مع اللامتناهي .  
 كذلك نجد ان الفنان شغل في أعماله البارزة بفكرة علاقة الانسان بما حوله و ما يتركه  من اثر و ما يطرأ على هذا الاثر من تغير جراء تفاعله مع البيئة المحيطة مجسدا استمرارية زمانية من خلال ايجاد نوع من التوتر السطحي غير المنتظم محدثاً تناغم بين الغائر و البارز على سطح اللوحة  بطبقات من الراتنجات ثم أوراق الذهب و ينهي عمله باللون فوق طبقات من ذهب رمز الخلود المستمد من حضارته الفرعونية ،  ليصبح اللون و الأثر هما  بطلا الأحداث ، فاللون هو الذي يعطي الديناميكية والحيوية للعمل ويتوغل بين طياته سواء كان لون واحد مثل الرمادي أو الأزرق جامعا بين الوان الاثير و لون الخلود او بينه وبين مجموعة من الألوان الصارخة كدرجات الاحمر دلاله على حرارة الارض و وهج المكان و الحياة  خالقاً عالمه الخاص على سطح لوحته هذا العالم المميز الذي هو انعكاس للوجود و رؤيته لحل اللغز الكوني ففي عالمه المجرد لا يوجد سعي لاعطاء حياه أو لايجاد حياة هي موجودة فعلاً و لكن في إطار هذا العالم المغلق المجرد المكتفي المتوحد المعبر عنه بالقليل جداً من الخطوط و بألوانه القوية الصريحة الصارخة في رقصة كونية لا نهائية تشعر بايقاعها في ايقاع اللوحة المنسجم ، عالمه هذا يحمل في داخله كل عوامل الاكتفاء و الاكتمال و النغمية التي تجعله يحمل في داخله مفاتيح بدايته و نهايته و حله للغز الوجود من وجهة نظر صانعه .
"""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""
جمال مليكة :
·         فنان مصري يقيم في ايطاليا منذ أكثر من 35عاماً
·         درس بأكاديمية  بريرا للفنون الجميلة  -  ميلانو إيطاليا - حاصل على درجة الدكتوراه في التصوير – ثم درجة الدكتوراه في السينوجرافيا
·         شارك في العديد من المهرجانات والمحافل الدولية   و نال العديد من الجوائز و التكريمات من  أهمها  حاصل على 9ميداليات رئيس الجمهورية الايطالية -  و 3 ميداليات " قداسة البابا يوحنا بولس " بابا الفاتيكان  - جائزة بينالي القاهرة عن مشروع" داخل البار كود "2003 – لقب نحات العام  2011 التي تمنحها جريدة ال جورنال الايطالية  - الميدالية الشرفية لامبروجينو لمدينة ميلانو  .
·         له العديد من المعارض الشخصية في مصر و في عواصم عالمية متعددة  من أهمها  معرض خاص مع 40 قطعة نحتية من اعمال النحات العالمي أوجست رودان  - جاليري هاي هيل لندن 2010
·         اشرف  جمال مليكة على العديد من المهرجانات  الدولية و شارك في تأسيسها و لجان تحكيمها .


·         جمال مليكة أحد مؤسسي  بينالي شرم الشيخ الدولي الأول للفنون  و كان قوميسيرا له 2013.







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق