الجمعة، 30 مايو 2014

مفهوم الزمن في الفكر الهندي ( حكمة الحياة )

لقد آمن أرسطو و أفلاطون بمبدأ أن كل علم و كل  فن يمر بمراحل مختلفة ، منذ البدأ وحتى إلى ذروة الازدهار ثم  بداية الاضمحلال حتى التلاشي التام وهذا المفهوم لا يتعارض مطلقاً مع الفلسفة الهندية التقليدية التي تقضي بدوام الخليقة ، فالحكمة التي لا  تعترف بالعصر و لا  تقضى  بالدوام  المطلق  بل  بإعادة  التجدد و الازدهار  ثم الاضمحلال ثم العودة للتجدد من جديد عبر دائرية الزمن و تجدد العصور. وهذا على عكس ما نادي به القديس أغسطين و الذي لم  يعرفه  الفلاسفة الإغريق ، هو أن الحياة الإنسانية هي ظاهرة مميزة غير قابلة للتكرار والتجدد فتاريخ الكون من وجهة النظر الإغريقية هو آلية طبيعية تعتمد على  تكرار  نفسها  من  خلال دوائر زمنية و هو ما يتفق مع الميثولوجيا الهندوسية في هذا الشأن.
" وقد انعكس هذا المفهوم الزمني الدائري و الذي يتيح مجالاً لتكرار اللحظة أكثر من مرة على مفهوم الزمان و المكان في الفن  في منطقة  وسط أسيا ككل و في التصوير بصفة خاصة  ، فلقد وجد الفنان الهندي متعة كبيرة في تصوير مشاهد لا يحكمها إلا عبقريته الفنية متجاهلاً فيها قوانين الطبيعة الرئيسية وعنصري الزمان والمكان  ،  فقد جمعوا لحظات مختلفة من الزمن مع بعضها في  نفس  الصورة  بتقسيمها  إلى عدة أجزاء كل جزء له زمانه الخاص و مكانه الخاص ، أما وحدة اللوحة فتتحقق من خلال استلهامها  لنفس الموضوع  أو النص الشعري  فتظهر الأمكنة المتعددة كمكان واحد و الأزمنة المختلفة كزمان واحد  حيث أن  الهدف  ليس  تجميد  اللحظة و لكن استرجاعها.
  و لعل أحد أوضح الأمثلة على هذا المفهوم الزمني لقراءة الزمن في فن  التصوير هو أحد منمنمات العصر المغولي من الجيتاجوفيندا وهي منمنمة  باشولي راجمالاBasohli Ramala   من نهايات القرن السابع عشر على الطراز البهاري، فالمنمنمة التي تعكس قصة من المفترض أنها وقعت في أوائل القرن السادس عشر تعكس قصة حب لاثنين و العلاقة بينهما في لحظة تواصل تعكس حب كان في الماضي و مستمر إلى المستقبل دون توقف عند لحظة زمنية معينة وهي تصف انجذاب رجل إلى امرأة و يبدو هنا هو المسيطر لأنه الأكبر حجماً و الأغمق بشرة و تضارب لون بشرته مع ثيابه البيضاء تعكس فكرة استمرار الزمن ففي هذه الصورة لا يوجد أي إيحاء بانتهاء اللحظة و كذلك الخلفية الزرقاء التي تعكس سماء صافية لا تدل على أي  حالة  جوية معينة و كذلك الأشجار الخضراء تعكس إحساساً بالمستقبل أو باللحظة  القادمة  بنفس القدر الذي  تعكسه عن  اللحظة الحالية ، فجوهرية  شكل  الشخوص و علاقتهم بالفراغ  المحيط  بهم  يعكس استمرارية  زمانهم و قد أتاح  هذا المفهوم  الزمني  الذي يعطي المجال للزمن لينغمس خلال الجو العام للوحة لإظهار مفاهيم فلسفية معينة من خلال الأسلوب الفني و لإدماج العديد من الأفكار و الأساليب و أنماط التفكير الدينية في اللوحة الواحدة كذلك  فإن عنصر الزمان المتغير أتاح  الفرصة  لإعطاء  حيوية و تجديد  لتمثيل عنصر المكان و لاستغلال الفراغ  كما أنه يمنح  لأسلوب  التصوير الهندي تميزه و تفرده.



و قد تولد عن هذه الرؤية الدائرية  للزمن و التي تعد مبدأً أساسياً من مبادئ  الفن الهندي عموماً و فنون النحت و التصوير خصوصاً رؤية مميزة للإيقاع داخل العمل الفني ،  فالشكل  في الفن الهندي لا  يصور في  حالة  سكون  من  منطلق السكون   وإنما هو شكل مجرد لوضع ثابت  Staticأخذه جسم في حالة حركة أو هو اقتطاع Sliced offللحظة معينة أتخذها الجسم و هو في حالة الحركة ، وهذا المفهوم استقي  من  عملية  الرقص التي  توحد عناصر إبداع  الوضع ، و الذي هو عبارة عن  بنية من العناصر ساكنة  في  حالة حركة ، فحركة عدة أعضاء  معينة و سكنات و إيماءات هذه الأعضاء مثل الأيدي أو الرقبة أو الوسط أو الأقدام في فن النحت أو في فن التصوير عندما يقتطع الفنان وضع معين للجسم من وضع راقص أو متحرك و محاولة تصويره تجعل المتلقي يتذكر هذا الوضع من الرقصة الكونية للإله ناريانا Lord Narayana  و وفقا ً للميثولوجيا الهندوسية والمأخوذ بها  في الديانات  الثلاث الهندوسية و البوذية و الجاينية فإن هذه الرقصة التي أنتجت حركة إيقاعية  نتج  عنها الموجات  فوق  المحيط  الكوني و التي  أدت إلى الخلق و بناءه  تقابلها  على  الناحية الأخرى الرقصة الإيقاعية للإله شيفا الراقصNatarja Shiva  و التي تؤدي إلى الدمار و ذوبان الحياة و هذا ما يفسر الحركة الإيقاعية للحياة من بدء فصعود فذوبان و تلاشي .
والحركة الإيقاعية للحياة ليست مجرد حدث فيزيائي أو خارجي فقط External بل هي حركة روحية  تمثل  رغباتنا الروحية و إرادتنا  المادية و النابعة من أفكارنا وعقولنا والتي تتمثل في الرضا والحب والكره والانفعال و الذكريات و برغم الجمود الذي تبدو فيه و لكنها  هي التي تعطي المعنى و الفهم  لحركات  أجسادنا و تصرفاتنا المادية فحياتنا الداخليةInner life  هي التي تعطي  مفهوماً  لتعبيراتنا و تصرفاتنا الخارجية وهذه النظرية تنطبق أيضاً على المملكة الحيوانية والنباتية والتي لا تنفصل في الأدب و الميثولوجيا عن الحياة بل تتداخل مع الضمير و الوعي  فلابد أن  تتناغم حياة الإنسان مع الإيقاع  الكلي لحياة الطبيعية بما فيها من حيوان و نبات لتتناغم مع الحياة ككل و الدور الرئيسي هنا للفنان و الشاعر هو أن يكتشف هذا التناغم والتوافق في الإيقاع و يمثله في فنه و فلسفته .




و الخلاصة هي أن فن النحت و التصوير الهندي ما هو إلا مشاهد متقطعة من الإيقاع المتدفق و المتناغم  بين الإنسان و الطبيعة المحيطة  به و لذلك نادراً ما  تظهر أشكال لعظام أو عضلات في حركة الأجسام في  اللوحات حيث أنها  تفقد أهميتها  في  تدفق وانصهار المشاعر و في الحركات المعبرة المتوافقة ، و لعل هذه الرؤية تتفق مع رؤية ليوناردو دافنشي في كتابه نظرية التصوير في أن شكل الجسد لابد أن يتوافق مع الغاية  أو الغرض المراد التعبير عنه  في اللوحة  فإذا كانت الفكرة إظهار الرقة و الشجاعة المحببة  فلابد للأعضاء من أن تميل إلى الشكل الأسطواني و أن تظهر العضلات  بصورة  طفيفة  جداً  للتعبير عن الأخلاق الرفيعة أما الأذرع فلابد أن يكون فيها ليونة و رقة ، وهو ما يؤكد أن دافنشي يوافق على أن تدفق المشاعر الداخلية  للإنسان هي التي تحدد شكل تكوين الجسد الخارجي الذي من المفترض أن  يقوم  المصور بتمثيله و لكنه يرى أيضاً  أن العمليات العقلية التي يقوم بها الإنسان تولد حركة بسيطة  و سلسة  للجسد لأنها أفعال عقلية و أن هناك  مشاعر عقلية معينة لا يمكن التعبير عنها بأية حركة أو تعبير جسدي، وهو ما اختلف فيه مع التصوير الهندي الذي  تغلب على  ذلك  باعتماده  على  أسلوب  اقتطاع  أجزاء  من الرقص  الإيقاعي  في  التصوير و على  سبيل المثال  الشكل الجامد  لبوذا  يعبر عن  التوافق الذهبي مع الطبيعة و الكون من خلال شكل الوجه ونمط تصوير الجسد.
"  كما نجد في الفلسفة الهندية مبدأ آخر مهم إلى جانب مبدأ تدفق  موجات  مشاعرنا و أحاسيسنا كمؤثر على الأنسجة و العضلات و هو أن عقلنا الباطن باتحاده مع قوانا البيولوجيه  قد  يعطينا مدخل للمعنى الحقيقي  للحياة  فعندما  تتحد الحيوات الخارجيه للإنسان مع الحركات الداخلية لعقله فإن العقل الكوني و حياته الخارجية أيضاً يتحدان خالقان الكون الملموس أو المحسوس بالنسبة للبشر  المايا و لذلك اعتبرت الفلسفة الهندوسية الإنسان جزء من الطبيعة وشريكاً لها ولذلك تحدثت الثقافة الهندية من أدب وشعر عن المثل الإنسانية بل والأجساد الإنسانية على أنها جزء من الطبيعة ينبغي أن يتناغم معها و يسير على إيقاعه.
" و مفهوم التناغم نفسه يختلف ما بين الفلسفة الهندية و الفلسفة الإغريقية فبينما كان التناغم في الفلسفة اليونانية يتحقق عن طريق أساليب مثل السيمترية و وحدة الإيقاع هي الدلائل الأساسية على التناغم  و على تحقيق  مفهوم الجمال ، أما الفنان الهندي فالتناغم و الجمال عنده في جعل فنه معبراً و هادفاً و لكنه لم يكن يهدف للتعبير عن كينونته أو شخصيته و لكن للتعبير عن العناصر الكونية و النفسية في الإنسان و التي تنتقل مع  روحه عبر الزمن من جسد لآخر ، و حتى المشاعر التي  تكون  مزروعة بعمق في النفس الإنسانية مثل المشاعر الجنسية أو الخوف أو الغضب و حتى المرح و البطولة و التعجب و السكينة تعتبر مشاعر انتقالية و لها أيضاً جانب كوني ،  لسببين رئيسين أولهما أنها جزء من الإنسان وعنصر رئيسي من طبيعته وثانيهما أنها غرائز أساسية تنبثق عنها عدة مشاعر أخرى  قد تكون لها صلة بالكون و  بالطبيعة  الكونية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق