لقد سعى جمال مليكة جاهدا عبر رحلته التي بدأت في مصر و استمرت في ايطاليا إلى ترك بصمته و أثره المستمد و النابع من تراثه الأصيل المصطبغ و المتفاعل مع تجربة حياته في ايطاليا فتراث الماضي بالنسبة له ليس إلا جزء من الحاضر و البيئة المحيطة به و هذه البيئة ليست ماضياً بل حاضراً ملموساً في ذهنه و تجاربه و مخيلته فماضيه هو جزأ من معرفته بالحاضر موجداً رؤية مميزة صهر فيها تجاربه و شخصيته و معتقداته و خيالاته و أحلامه واكتشف مساره المميز الذي ميز مسيرته الفنية عبر تطورها منذ البدأ و حتى الآن .
كان فيها الإنسان و علاقته بالزمان و مايتركه من أثر و مازال هو القضية مليكة الشاغلة فأعماله ما هي إلا مشاهد من الإيقاع المتدفق و المتناغم بين الإنسان و الطبيعة المحيطة به مولداً بذلك رؤية دائرية للزمن تتجدد فيها الحياة و عودة الروح للجسد الفاني مراراً و تكراراً , و هو ما وضح جلياً في أعمال الفنان كافة سواء النحتيه او التصويرية . فاختار لأعماله النحتية تشكيلات لرجال آتين من عمق التاريخ و مومياوات لفراعين لا يحكمه في تكوينه شيء سوى عبقريته الفنية متجاهلاً فيه قوانين الطبيعة و عنصري الزمان و المكان لأن كل هذه عوامل تفقد أهميتها أمام تدفق و إنصهار المشاعر في الحركات المعبرة المتوافقة لهذه المنحوتات .فنجده يذيب أو يفكك حدود المادة الإنسانية لتماثيله بفراغات و تجويفات داخل الأثير و الزمان و المكان موجداً حالة من التناغم مع اللامتناهي تعبر بها أرواح تماثيله حدود الزمان و المكان و الوجود و كل المفاهيم النسبية التي تحكم الجسد الإنساني و تتخطاها طبيعة الروح الإنسانية و يتضح لنا هنا مسعى الفنان للتعبير عن أن الحركة و الإيقاع للحياة ليست حدث فيزيائي خارجي فقط external بل هي حركة إنسانية داخلية Internal بالدرجة الأولى تمثل رغباتنا الإنسانية و إرادتنا المادية النابعة من أفكارنا و عقولنا و مشاعرنا كبشر و إنفعالاتنا المختلفة و الذكريات و الذاكرة و كلها مفاهيم تعطي المعنى و الفهم للغة الجسد . ثم ينهي الفنان عمله النحتي بالضوء المطل علينا من تجويف التمثال الضوء ذلك الثابت الأزلي الذي لا يتغير و إنما الأرض بما عليها من حيوات و أمكنة هي التي تدور حوله مما يدعم مفهوم المطلق و تجدد الروح وإعادة البعث في الوقت ذاته ، و هو نفس المفهوم الذي جسده الفنان في اعماله التصويره من خلال ديناميكية الخط و ضربات فرشاته السريعة على سطح اللوحة فالخط هو البطل الرئيسي غالباً في لوحات مليكة و لكنه لم يهمل اللون فهو واحد من اهم أولوياته فدقته في اختيار اللون هي التي تترك ذلك الايحاء عند المتلقي في أن عناصر اللوحة ليست وحدها و لكنها في تفاعل مع الكون و الطبيعة تبدو و كأنها سابحة في بحر كوني خلال رحلة خارج إطار الزمن و بلا مكان محلقة في وجود مطلق و كأنه ينحت شخوصه على جدار اللوحة و يخرجهم من نسيجها بألوان باكاسيد براقة متوهجة تعود لمخزون بصري ثري من ذاكرة الطفولة ، فكل لوحة من لوحات مليكة هي بمثابة منظومة عضوية عبر فيها عن رؤيته اللامتناهية للكون و اللوحة من وجهة نظره هي اكتشاف لمنطقة جديدة في المطلق بحثاً عن حقيقة كونية او حتى محاولة لكشف ظواهر هذه الحقيقة و هو ما يتضح جلياً في أعماله التصويره البارزه فنجد ان الفنان شغل بفكرة علاقة الانسان بما حوله و ما يتركه من اثر و ما يطرأ على هذا الاثر من تغير جراء تفاعله مع البيئة المحيطة مجسدا استمرارية زمانية من خلال ايجاد نوع من التوتر السطحي غير المنتظم و تناغم بين الغائر و البارز على سطح اللوحة فكأنه ينقل احفورة من التاريخ إلى داخل صاله العرض لتحكي لنا ذكرى تركها حافرها برمزياته و بمرور الوقت تخلصت من تفاصيلها الاصيلة لتتحول الى نحر على جسد الزمن بايحاءات و معان مجردة تزيدها سحرا و غموضاً .
و من هنا نجح مليكة في تحقيق معادلته الصعبة في الموازنة بين ماضيه و تراثة و حاضرة بكل مافيه من تنوع و بين الأنا و الآخر اي اشباع حاجاته في التعبير عن النفس و ايصال الفكرة للآخر بطريقة تحظى بقبوله و رضاه دون التخلي عن اصالته
"""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""
جمال مليكة :
فنان مصري يقيم في ايطاليا منذ أكثر من 35عاماً حاصل على الدكتوراه من أكاديمية الفنون الجميلة بريرا ميلانو إيطاليا. شارك في العديد من المهرجانات والمحافل الدولية و نال العديد من الجوائز و التكريمات منها حاصل على 9ميداليات رئيس الجمهورية الايطالية و 3 ميداليات بابا الفاتيكان - جائزة بينالي القاهرة عن مشروع" داخل البار كود "2003 – نحات العام في ايطاليا 2011- الميدالية الشرفية لامبروجينو لمدينة ميلانو من أهم معارضة معرض خاص مع اعمال النحات العالمي أوجست رودان - جاليري هاي هيل لندن 2010
اشرف على العديد من المهرجانات و شارك في تأسيسها و لجان تحكيمها أخرها بينالي شرم الشيخ الأول للفنون و كان قوميسيرا له 2013.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق